التعلق العاطفي هو الأساس الذي تبنى عليه كل علاقاتنا في الحياة ،ينشأ معنا من الطفولة أولا ليساعد على استمراريتنا .. ثم يستمر معنا في كل مراحل حياتنا ليكفل لنا علاقات طيبة مع الآخرين ، لكن أحيانا يفسد الهيكل العام لطبيعة تعلقنا بالآخرين فيصبح التعلق بهم غير سوي وتفسد معه كثير من جوانب حياتنا.
و“التعلق هو أصل المعاناة” ، هذا ما أخبرنا به بوذا في خلاصة رحلته نحو التنوير ولذا حين نرغب بعيش حياتنا دون ألم أو حزن علينا أن نتعلم كيف نتخلص من التعلق العاطفي الغير صحي ومن الاعتماد على الآخرين لإشباع حاجاتنا الشعورية لأن كلنا سنفنى والباقي هو الله سبحانه وتعالى.
ما هو التعلق العاطفي؟
التعلق العاطفي هو تكوين رابطة شعورية بين الإنسان وآخر يلبي له احتياجاته النفسية والعاطفية ،فيشعر بالأمان في وجوده ويعتمد عليه لتحقيق سلامه النفسي ،لكن حين يزول من حياته ذلك الشخص المتعلق به يضطرب الإنسان ويعجز عن مواصلة حياته بشكل سليم.
ينشأ التعلق العاطفي في البداية بين الطفل وأمه وهو المكون الأساسي لآليات المواكبة النفسية والمعرفية حيث تتكون شبكة من الأعصاب داخل المخ تثبت شعور عاطفي نحو الأم مدعومة بعمل الهرمونات بالأخص “الأوكسيتوسين” هرمون العاطفة والألفة. والتعلق أساسي للطفل لأنه يمنحه الراحة والأمان لاستكشاف العالم المحيط بأمه مما يساعد على حمايته وضمان نضجه.
أنماط التعلق العاطفي
في البداية درس عالم النفس البريطاني “باولبي” التعلق وما يرتبط به من تصرفات الطفل كإظهار الغضب وعدم الارتياح حال غياب الأم لتوثيق حاجته للأمان ويعتقد أن الطريقة التي يتصرف بها تعطينا فكرة عن نمط تعلقه بالمحيطين على مدار حياته.
بعدها قامت عالمة النفس “ماري أنيسورث” بسلسلة من التجارب على الأطفال بين عمر 12-18 شهر لدراسة أنماط التعلق وحددت ثلاثة منها ثم أضيف نمط رابع فأصبح لدينا 4 أنماط من التعلق العاطفي لا يوجد منها ما نعتبره جيد أو سيء ،إنها فقط تختلف من شخص لآخر ويقترح الباحثون أن هناك فرصة لتغير النمط كل 4 سنوات بنسبة 25% وهذه الأنماط هي:
1. التعلق القلق :
فيه تحب أن تكون بالقرب من شريكك طوال الوقت ،لكن لديك خوف دائم من ألا يرغب بقربك منه بنفس القدر فتكون حساسا للغاية لتقلباته المزاجية ولأبسط تصرفاته وهفواته فتستاء سريعا وتتخذ ردود فعل قد تكون مدمرة للعلاقة.
2. التعلق الآمن :
حيث تستمتع بوجود الألفة مع الآخر ،دون قلق زائد على زوال العلاقة أو خوف من الهجر .. وتجيد التعبير عن احتياجاتك النفسية وتلبية احتياجاته والاستجابة لها بشكل مناسب دون مبالغة أو لا مبالاة وتشاركه الأحداث والصعوبات الحياتية بالقدر الملائم لكما.
3. التعلق التجنبي :
تحافظ على استقلاليتك واكتفائك الذاتي وتتجنب الحميمية أو القرب الزائد من الآخرين وتميل لترك مسافة في علاقاتك معهم ،عادةً تكون متأهبا لأي علامات سيطرة أو تحكم من الغير .. فتعتمد على استغلال الآخرين ولا تحب مشاركة مشاعرك واحتياجاتك العاطفية معهم .. تفضل الحرية ولا تكترث باحتياجات شريكك أو تقلق على العلاقة.
4. التعلق المضطرب :
هو التعلق العاطفي المختلط بين نمط التعلق القلق والتجنبي ،فيكون فيه الفرد غير متوقع أو محدد في تصرفاته ، غير متزن أحيانا يرغب بقرب شريكه ويعبر عن احتياجاته ويستجيب للآخر ، وأحيانا يغضب ويبتعد ويتجنبه ثم يلومه على ابتعاده أو ينسحب من العلاقة فجأة .. ويقترح أن يكون هذا النمط مبنيا على صدمات نفسية من الطفولة.
ما هو التعلق العاطفي المرضي؟
يعتبر التعلق العاطفي تعلق مرضي حين تعتمد في كافة احتياجاتك النفسية والشعورية على الطرف الآخر ولا تشعر بالأمان إلا في وجوده .. تذوب شخصيتك بالكامل في شخصيته فتحب ما يحب وتفعل ما يفعل ..يكون المحور الذي تدور حياتك حوله وتشعر بالخوف من ابتعاده وترغب بوجوده معك دائما فيصبح مصدر الاطمئنان والثقة وتعتقد أنه لا يمكنك مواصلة العيش من دونه.
تعجز عن القيام بمهامك ومسئولياتك حال ابتعاد الطرف المتعلق به وكأن الحياة قد توقفت تماما في نظرك ويصيبك الحزن والكآبة في غيابه حتى يعود بقربك مما يستهلك طاقتك ويعطل مسيرك.
كما يشعر الآخر بأنه مكبل في العلاقة ومنهك من تعلقك ويشكو ارتباطك الزائد به واعتماديتك عليه وقد يرغب بالهروب او الابتعاد عنك.
أسباب التعلق العاطفي
- الشعور بالفراغ والوحدة واللامعنى.
- عدم تقبل الذات والشعور بالدونية وضعف الثقة بالنفس.
- الحرمان العاطفي في مرحلة الطفولة فقد يلبي الآباء الحاجات المادية ويهملون الاحتياجات النفسية للطفل.
- اضطرابات الشخصية بأنواعها وبعض الأمراض النفسية كالوسواس القهري واضطراب ما بعد الصدمة.
- التعرض لإساءات في مرحلة الطفولة.
- الصدمات النفسية المتكررة وعدم التعافي منها بشكل كامل.
- نقصان الوعي وعدم القدرة على تنظيم المشاعر والتعبير عنها بشكل متزن.
- عدم تقبل شعور الرفض من الآخرين فنتعلق بهم لتجنب هذا الشعور.
- الخلافات الأسرية التي تثبت صورة مختلة عن العلاقات في ذهن الطفل.
تعرف على : كيف تتخلص من الشعور بالوحدة
هل التعلق العاطفي مرض نفسي؟
لا يعتبر التعلق العاطفي مرض في حد ذاته فالأساس أننا نكونه منذ الطفولة لمساعدتنا على البقاء ولكن تكوين أنماط التعلق الغير آمن تعد مكون للعديد من الأمراض النفسية فإذا لم تتمكن من تغييره والتغلب عليه وشعرت أنه يسبب عجزك عن القيام بمهامك وعيش حياتك بشكل طبيعي فينبغي استشارة معالج نفسي للتشخيص والعلاج.
التخلص من التعلق العاطفي المرضي
- حدد هويتك أولا : عليك أن تعرف ذاتك ما تحب وما تكره وما أهدافك في الحياة.
- كون علاقات متعددة : نحن أبناء وأصدقاء وآباء وزملاء عمل وشركاء حياة ،فعلينا أن نمارس كل الأدوار ونلبي احتياجاتنا العاطفية منها بدلا من الاعتماد على مصدر واحد.
- اخلق مساحتك الشخصية : حافظ على ممارسة هوايات وأنشطة خاصة بك كالقراءة والكتابة والرسم والتصوير وغيرها.
- العناية بالنفس : خصص وقت لتعتني بنظافة جسدك ومظهرك وملابسك فهذا يساعد بتحسين ثقتك بنفسك.
- تطوير ذاتك : تعلم تنمية مهاراتك الفردية وافتح لنفسك آفاق جديدة لاكتساب خبرات وتجارب مختلفة وحصل معرفة بعلم النفس.
- التعلق بالله سبحانه وتعالى : مارس العبادات والشعائر للتقرب إلى الله لأنه هو الباقي ولن نشعر بالخوف أو القلق أو الاضطراب في علاقتنا معه ،وعلينا أن نستشعر معيته دائما.
- بادر بالتعبير : عبر عن احتياجاتك ورغباتك لشريكك بدلا من تجنبه فالعلاقات الآمنة تقوم على التفاهم والمشاركة.
- غير قناعاتك السلبية : ليس كل ما نحب خيرا لنا ، أحيانا نحب نوع من الطعام ولكنه يسبب لنا الحساسية ،إن كان من تحبه يجعلك دائما في حالة قلق وشك ولا يلبي احتياجاتك النفسية أو لا تشعر معه بالأمان فالأفضل أن تبتعد عنه.
- المساهمة بالأعمال التطوعية : تساعد على تحسين نظرتك وقبولك لذاتك والشعور بالانتماء لكيان هام ،فتشارك وتتعرف على أشخاص جدد وتشغل جزء من وقتك.
- الاستعانة بأخصائي نفسي أو مرشد اجتماعي : إذا شعرت أن التعلق العاطفي بشخص يؤثر عليك بالسلب فعليك اللجوء لأهل المشورة لمساعدتك على التخلص من التعلق المرضي.
تعرف على : كيفية التخلص من الأفكار السلبية
التعلق العاطفي في البداية هو أمر طبيعي يساعد على تكوين العلاقات واستمراريتها ولكن الأنماط الغير صحية منه تستوجب إعادة النظر في داخلك والبحث عن أسبابها .. وتعلم التعبير عن مشاعرنا باتزان ،والوعي بتصرفاتنا السلبية ومحاولة التحرر من سجن العاطفة يحمينا من استهلاك طاقتنا النفسية بلا فائدة ،وفي النهاية لا أحد يمتلك أحد والملك لله سبحانه فعلينا أن نتعلق به لنشعر بالأمان والاستقرار العاطفي وضمان سلامتنا النفسية.